مدخل إلى فلسفة الأصول

مدخل إلى فلسفة الأصول

مدخل إلى فلسفة الأصول

بقلم: علي أکبر رَشــاد

المقدمة
الفرع الأول) تقليد كتابة ‌المداخل
كتابة ‌المداخل للأعمال و المؤلفات العلمية‌من جملة التقاليد العلمية ‌العريقة ‌الأنيقة. و ربما كان فورفوريوس (نحو 232ـ 305م) أول أو من أوائل الذين أطلقوا هذه السنة العلمية بكتابته رسالة الإيساغوجي كمدخل لكتاب المنطق. (الفهرست، طبعة مصر، ص 354).
في الماضي كانت كتابة ‌المدخل تأتي بعض الأحيان على شكل ديباجة‌مصحوبة‌بالصنعة «براعة الاستهلال» (1)، و تأتي في أحيان أخرى على شكل مبحث رؤوس العلم الثمانية، و تظهر ً حيناً ثالثاً تحت عنوان تبيين و تحليل مبادئ العلم. و لكن شيئاً فشيئاً احتلت ‌الفهارس الإجمالية و التفصيلية مكان فن الديباجة و براعة الاستهلال، و ترك مبحث الرؤوس الثمانية ـ ‌مكانه لمبحث مبادئ العلم، و في عصرنا هذا تركت كتابة ـ ‌الفهارس التفصيلية مكانها للفهارس الفنية و التخصصية، و يكاد تحليل مبادئ العلم يتغيّر هو الآخر و يتبدل إلى فلسفات مضافة إلى العلوم.
الأمور الفلسفية و التاريخية الثمانية المعطوفة على أي علم من العلوم، و التي تؤهِّل معرفتها المتعلمين و الباحثين لحسن التعلم و التحقيق تسمى الرؤوس الثمانية. و هذه الرؤوس الثمانية هي تعريف العلم، و موضوع العلم، و غاية العلم، و منفعة العلم، و عناوين أو فهرس أبواب العلم، و مؤلف أو مدوِّن العلم، و مرتبة ‌العلم، و الأنحاء التعليمية (التقسيم و التحليل و التحديد).
و قد ذكرت التعابير التالية في تعريف مبادئ العلم:
1-
2-
3-
4-
على الرغم من ان الشارح الطهراني (صاحب هداية ـ ‌المسترشدين) اعتبر المراد من المبادئ هنا المعنى الثاني من التعبير الثالث (هداية ـ ‌المسترشدين، ص 18) إلا اننا نقصد بمبادئ العلم المعنيين الأول و الثاني معاً، و نعتقد أن هذا التصور أدق بل أصح.
يمكن تقسيم مبادئ العلوم إلى أقسام عديدة و من جهات عديدة، من ذلك: 1 ـ تصورية و تصديقية ، 2 ـ معرفية و غير معرفية ، 3 ـ ما وراء العلوم و ما وراء‌المسائل، 4 ـ المشتركة (بين مجموعة ‌من العلوم أو بين العلوم كلها) و المختصة بـ (علم معين)، 5 ـ الوسيطة و القريبة، 6 ـ الممتزجة و غير الممتزجة، و ….
العلاقة‌بين الرؤوس الثمانية و مبادئ العلم علاقة عامة من وجه، وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة بينهما و بين الفلسفة المضافة إلى العلم.
الفرع الثاني) حول الفلسفات المضافة
أولاً) تعريف الفلسفة المضافة:
«العلم الذي يتولى البحث العقلاني الفوقي لعلم من العلوم أو الأمر المنظومي».
ثانياً) تصنيف الفلسفات المضافة:
1 ـ مضافة‌إلى مطلق الوجود (الوجود بما هو وجود) كالعلم الكلي.
2 ـ مضافة إلى وجود خاص:
2/1 ـ من سنخ المعرفة:
– المعرفة المطلقة، (فلسفة العلم).
– المعرفة الخاصة:
– الحقيقية (كفلسفة الفلسفة).
– الاعتبارية (كفلسفة علم الفقه).
2/2 ـ من سنخ ما سوى المعرفة:
– الأمر الحقيقي (كفلسفة الفيزياء ‌و فلسفة السينما).
– الأمر الاعتباري (كفلسفة‌السياسية و فلسفة‌الحقوق).
ثالثاً) علاقة ‌الفلسفات المضافة للعلوم بـ «رؤوس العلم الثمانية»، و «مبادئ‌العلوم»، و « مباني العلوم» (السابقة).
رابعاً) فوائد الفلسفات المضافة للعلوم و عوائدها.
الفصل الأول) ‌مبادئ علم الأصول:
مدخل:
1 ـ بما أن أية قضية علمية‌هي حصيلة عملية‌معينة، و ثمرة مبان نظرية‌خاصة، فإن كل واحدة ‌من القضايا الأصولية ناتجة بالضرورة عن عملية خاصة، و مبنية على مبدأ أو مبادئ تصورية و تصديقية ‌معينة.
2 ـ نقطة الانطلاق في عملية الاجتهاد و اتخاذ رأي في الفروع الفقهية هي الاجتهاد في مسائل منطق الاجتهاد، و لمّا كانت المسائل تبتني على المبادئ فإن الاجتهاد في مسائل الأصول و منطق الاجتهاد تبتني على الاجتهاد في مبادئ الأصول و مبانيه. من هنا فإن لا إجتهادية مباني الفقيه في باب كل واحد من المبادئ و كل واحدة من المسائل يستدعي تقليدية آرائه الفقهية. و هكذا فمن لم يكن مجتهداً في مبادئ الأصول و تبعاً لذلك في مسائل الأصول لن يكون بالطبع مجتهداً في الفقه أيضاً.
3 ـ في ضوء‌النقطتين المذكورتين أعلاه فقد خاض كل واحد من علماء‌الأصول في مباحث المبادئ بنفسه مباشرة ‌و بطريقة اجتهادية، و حيث أنه لم يكن هناك علم أو علوم أخرى مستقلة عن علم الأصول حتى تتولى تحليل مبادئ الأصول بمقدار الحاجة، فقد عولجت هذه المباحث في ثنايا مسائل علم الأصول. (فوائد الأصول، ج 1، ص 27).
هذا الشعور بالحاجة من قبل الأصوليين أدى نتيجة لتدقيقهم و تعمقهم المذهل إلى ظهور آراء بديعة و متنوعة حول غالبية مسائل هذه المجالات المعرفية‌و هي في معظم الأحيان آراء مختلفة عن الآراء الدارجة لدى أرباب تلك الفنون. استقراء و استقصاء هذه الفوارق في العلوم الأدبية و اللغوية و العلوم العقلية و الإلهيات و …. من شأنه أن ينتج لائحة طويلة ( ذكر النماذج…..). و بوسع الدراسة المقارنة‌لهذه الفوارق أن تكون بحد ذاتها موضوعاً بحثياً مستقلاً و قيماً. و قد بادر بعض المعاصرين الى دراسة‌عينات من المباحث دراسة‌مقارنة، و مثال ذلك رسالة «المعنى الحرفي في اللغة بين النحو و الفلسفة و الأصول» للسيد محمد تقي الحكيم (مطابع الأميرية، القاهرة‌، 1967).
الفرع الأول) المبادئ البحثية في كتب علماء ‌الأصول
مع أن الأصوليين المتأخرين بحثوا المبادئ أكثر من أسلافهم و بطريقة أفضل من علماء ‌الميادين المعرفية الأخرى ، لكن هذه المسألة كانت من الهموم العلمية‌للأصوليين المتقدمين أيضاً، و قد اهتموا بتحليل مبادئ الأصول منذ بدايات تدوين هذا العلم.
الفقهاء ‌الشيعة القدماء و المتقدمين ـ طبقاً لتقاليدهم العلمية ‌في زمانهم ـ كانوا يبحثون المسائل الأصولية في المصادر الفقهية، لذلك لم يكونوا يهتمون اهتماماً كبيراً بمبادئ الأصول. و منذ الانفصال التام لأصول الفقه عن علم الفقه – و الذي حدث بنحو متأخر ملحوظ عن العامة – شاع أيضاً البحث في المبادئ.
لا يوجد في ما وصلنا من «التذكرة‌بأصول الفقه» للشيخ المفيد (ت 413 هـ) آراء جديرة بالاهتمام حول المبادئ. لكن السيد الشريف المرتضى (ت 436 هـ) يؤكد في «الذريعة إلى أصول الشريعة» على نقطة مهمة هي: «‌فإن أصول الفقه مبنيّة على جميع أصول الدين مع التأمل الصحيح»، و ينتقد الأصوليين الذين خلطوا بين المبادئ و المسائل، ثم يشرح بالتفصيل الدور الأساسي للمبادئ الكلامية‌و الإلهياتية و المعرفية و اللغوية و الأدبية و حتى الصوتية لمسائل أصول الفقه، و ضرورة البحث و التحقيق فيها. و يعتبر المباحث الكلامية‌أصولَ الأصول، و يعترف تلويحاً بسنخية و علاقة‌المخالفة في أصول الفقه و المخالفة في المباني الكلامية‌للشيعة. (الذريعة، ج 1، ص 2 ـ 4).
و يؤكد شيخ الطائفة (ت 460 هـ) على آراء أستاذه و مواقفه و يبرمها ( العدة في أصول الفقه، ج 1، ص 7).
في غنية النزوع إلى علمي الأصول و الفروع لأبن زهرة (ت 585 هـ)، و معارج الأصول للمحقق الحلي (ت 676 هـ)، و في مبادئ الوصول إلى علم الأصول، و تهذيب الوصول للعلامة الحلي (ت 726 هـ)، و كذلك في معالم الدين للحسن بن الشهيد الثاني (ت 965 هـ)، لم يطرح بحث جديد و جدير بالنظر حول المبادئ.
بعد فترة و لأول مرة، فصل المدقق البهائي (953 – 1030 ه‍.) بتأليفه «زبدة الأصول»، مبادئ علم الأصول بنحو كامل عن مسائل هذا العلم، و قدم تعريفاً واضحاً لمبادئ الأصول و طوَّرها و صنفها بطريقة منهجية ‌مبتكرة. و مع أنه قسم مبادئ الأصول إلى أربعة أقسام هي: المنطقية و اللغوية (العربية) و الكلامية و الأحكامية، لكنه في مقام البحث أدغم المبادئ الكلامية و الأحكامية و درسها تحت عنوان المبادئ الأحكامية. (صص 9 ـ 163).
و من الأصوليين المتأخرين كان فاضل البشروي التوني (ت 1071 هـ) في الوافية في أصول الفقه، و الميرزا القمي (1152 ـ 1231هـ) في قوانين الأصول، و الشارح الطهراني ( ) في هداية المسترشدين، الشيخ الأعظم ( ) في مطارح الأنظار، و الآخوند الخراساني ( ) في درر الفوائد، و الميرزا النائيني ( ) في فوائد الأصول، و المدقق البروجردي ( ) في لمحات الأصول و نهاية الأصول، و الميرزا حسن البجنوردي ( ) في منتهى الأصول، و الشارح الفيروزآبادي ( ) في عناية الأصول، و المحقق الخوئي ( ) في محاضرات في أصول الفقه، و في دراسات في علم الأصول، و السيد محمد تقي الحكيم (1346 هـ) في أصول الفقه المقارن، و آية الله بهجة ( ) في مباحث الأصول، كانوا من جملة الذين اكتفوا ببحث قصير و عابر حول المبادئ.
و هناك طائفة أخرى كالوحيد البهبهاني ( ) في الفوائد الحائرية، و المدقق الطهراني ( ) في الفصول الغروية في الأصول الفقهية، و المحقق العراقي ( ) في تنقيح الأصول، و في مقالات الأصول، و في نهاية الأفكار في مباحث الألفاظ، و الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري ( ) في درر الفوائد، و محمد رضا المظفر ( ) في أصول الفقه، و الشهيد الصدر ( ) في بحوث في علم الأصول، و الإمام الخميني ( ) في تهذيب الأصول، مع أنهم تحدثوا عن بعض مبادئ الأصول لكنهم تجنبوا البحث في المبادئ بحثاً وافياً و مستقلاً.
و من بين المتأخرين، خاض العلامة السيد عبد الله شبر (ت…. هـ) في بحث المبادئ بالتفصيل، و قد ناقش الأصول الأصلية في قسمين؛ خصص الأول لمبحث مبادئ الأصول، و الثاني لمبحث الأدلة الشرعية. و قسَّم المبادئ إلى قسمين منفصلين تحت عنواني «المبادئ اللغوية» (في 23 باباً، من صفحة 6 إلى 52) و «المبادئ الأحكامية» ( في 14 باباً، من صفحة 52 إلى 88). و قد ناقش في فصلين بعض المباحث التي ذكرت في الكتب الأصولية الدارجة على أنها مسائل أصولية. كما أن بعض المباحث المطروحة ‌في «أبواب الأدلة الشرعية» (ص 88 ـ 328) من سنخ مبادئ أصول الاستنباط.
ثم جاء ‌المحقق الإصفهاني (ت 1361 هـ) و ألف رسالة‌الأصول على المنهج الحديث، و حاول إطلاق مشروع جديد في تنظيم هذا الموضوع، و قد طرح آراء دقيقة بشأن مبادئ علم الأصول. و قسّم المبادئ إلى فئتين تصورية‌و تصديقية، ثم قسم كل واحدة‌منهما إلى نوعين: لغوية و أحكامية. (ص)، و يمكن رسم مباحث الرسالة على شكل المخطط ……….. أدناه.
كتاب المدخل إلى عذب المنهل للعلامة الشعراني الطهراني ( )، هو الأثر الأخير و الوحيد في تاريخ علم الأصول الذي ألف بشكل مفصل و مستقل في مبادئ علم الأصول. و مع أن العلامة الشعراني تأثر بوضوح في المدخل بزبدة الأصول، لكنه بتأليفه هذا الكتاب القيم عبر البرزخ التاريخي بين عهد «البحث في المبادئ» و عهد «تأسيس فلسفة الأصول». و قد وضع كتابه هذا في مقدمة و ثلاثة أبواب بعناوين: 1 ـ المبادئ الكلامية و المنطقية 2 ـ المبادئ اللغوية‌ـ المبادئ الأحكامية‌.
و من بين الفقهاء الأحياء (حفظهم الله) تبدو المساعي التجديدية‌لآية الله السيستاني ( ) في رسالة الرافد في أصول الفقه، في تحليل بعض مبادئ الأصول جديرة بالثناء، رغم عدم خلوّها من بعض الإشكالات التي سنشير الى جانب منها في فرصة مناسبة.

الفرع الثاني) منهجية تشخيص مبادئ العلم و تمييزها عن مسائله
من دون تعيين مناط لوضع المبادئ ووضع المسائل للمطالب المطروحة في علم من العلوم (1) سيكون هناك جدل حول تقديم تعريف دقيق لمبادئ ذلك العلم و مسائله (2)، و فرز المبادئ عن المسائل (3)، و تشخيص «المباني البعيدة» التي لا تعدّ دون شك من المبادئ (4)، و فصل «المباني الوسيطة» التي تتميز بأنها متعددة‌البطون و المستويات؛ لذلك يصعب من حيث «الماهية» ‌أو من حيث «المصاديق» تصنيفها ضمن المبادئ أو ضمن غير المبادئ، و يجب دراستها بحسب الحالات و إضفاء‌الهوية عليها بإلحاقها بالمباني البعيدة أو القريبة (5)، و كذلك تشخيص المباني القريبة‌و هي بلا ريب في زمرة المبادئ (6)، مضافاً إلى ذلك تعذر تعيين مصاديق كل واحد من أنواع المبادئ. كما أن وضع المعيار واختيار المناط لن يكون أمراً ممكناً من دون طرح منهج أومناهج مناسبة‌وملائمة. لذلك ينبغي في البدء تقديم أسلوب أو أساليب لمعرفة المبادئ و معرفة المسائل في العلوم، و من ثم التحدث عن المبادئ في علم من العلوم.
في مبحث مناط أصولية المسائل نقترح أربعة‌أساليب لتعيين مبادئ العلوم ومسائلها و تمييز هذه عن تلك، وتصنيف المبادئ و المسائل في كل علم، و فيما يلي نذكر أحد الأساليب المقترحة، و هو أسلوب تحليل المباحث الممكنة الطرح «حول» ‌أو «في» موضوع أي علم (بمنحيي «النظرة الداخلية‌» و «النظرة الخارجية» )، و من ثم تفكيك و إلحاق كل واحد منها بأحد العلوم المكوِّنة لـ «منظومة معرفية ‌مرتبطة و مترتبة» على نحو القياس و معمراعاة‌الأنسب فالأنسب و الأقرب فالأقرب. و بذلك تتعين مكانة كل مبحث، و محل كل واحد‌ة من مراتب كل واحد من المباحث في العلوم المرتبطة به.
بعض الأساليب المقترحة لمعرفة ‌المسائل قبلية و بعضها بعدية. و قد كان الأسلوب أعلاه قبلياً.
على أساس هذا الأسلوب ـ و من باب المماشاة مع وجوه من أصحاب الأصول، و التحفظ على أقرب تعابير موضوع الأصول الى الرأي المختار (1) ـ إذا كانت مثلاً «الحجة في ساحة الشريعة» أو «الحجة الشرعية» موضوعاً لعلم الأصول، ستكون المباحث الرئيسية الممكنة الطرح «حول» و «في» معرفة الحجية عبارة عن المباحث السبعة التالية:
1 ـ معرفة الماهية (أو علم الماهية) 2 ـ معرفة الوجود (أو علم الوجود) 3 ـ معرفة الوظيفية و الأداء 4 ـ معرفة الحجية 5 ـ معرفة مجال التطبيق 6 ـ معرفة العلاقة 7 ـ معرفة آفات الحجج.
طبعاً بعض هذه المباحث كالمبحثين 1 و 2 أحادية المستوى (أحادية البطن)، و بعضها كالمبحثين 4 و 6 ثنائية المستوى، و بعضها كالمبحثين 3 و 5 ثلاثية‌المستوى بل متعددة المستويات.
و عند تحليل هذه المباحث و في ضوء التلاؤم بين كل مبحث و مراتبه و مستوياته و بين الهوية و الرسالة المعرفية لكل علم من مجموعة العلوم المكوِّنة لـ « منظومة العلوم المسؤولة عن الهندسة‌المعرفية‌للدين» يتم تشخيص مكانة ‌كل فكرة، و تميز مبادئ كل علم عن مسائله.
الفهرس الإجمالي لفصول كل واحد من المباحث السبعة يمكن أن يكون على النحو التالي.
أولاً: معرفة‌الماهية:
1/1ـ تعريف (و تعيين المراد من) الكتاب و السنة، و الإجماع، و الشهرة، و العقل، و الفطرة، و العرف، و السيرة العقلائية، و المصلحة، و الظنون المتراكمة، و ….، و تبيين خصائص و مرادفات كل واحدة منها.
1/2ـ التعريف و القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و سائر الأمور في مظان الحجية.
1/3ـ تعريف المصطلحات المفتاحية المرتبطة بكل واحدة من الحجج.
1/4ـ تقسيمات و أقسام كل واحدة من الحجج.
1/5ـ تمييز كل واحدة من الحجج عن مشابهاتها، كالعقل عن الفطرة، و القياس عن السيرة العقلائية، و ….، و تعيين ما به الامتياز فيها.
ثانياً : معرفة وجود الحجج (علم وجود الحجج):
2/1 إثبات وجود كل واحدة من الحجج و تعيين كيفية إحراز مصاديق كل واحدة منها.
2/2 تبيين مراتب كل واحدة من الحجج (في حال كانت ذات مراتب).
2/3 تبيين ما به الامتياز و ما به الاشتراك في مراتب الحجج.
ثالثاً: معرفة ‌فاعلية الحجج:
أ ) المباحث العامة لمعرفة‌الفاعلية‌(دراسة الاداء ‌و الدور المعرفي للحجج بعيداً عن مجال خاص/ لحاظ لا بشرط).
أ/1 ـ دراسة‌أنواع دلالات كل واحدة من الحجج في الجملة (تبيين الفاعليات المفيدة للمعرفة، و الفاحصة للحجية، و ذات المعنى، و الفاحصة للمعرفة، و ….).
أ/2 ـ فحص القيمة المعرفية لأنواع دلالات كل واحدة‌من الحجج (إفادة اليقين، إفادة الظن، الكاشفية التامة، الكاشفية الناقصة، عدم الكاشفية).
أ/ 3 ـ تحليل المديات الدلالية ‌لكل واحدة من الحجج ( تعيين مجال أو مجالات فاعلية‌كل واحدة‌من الحجج) في الجملة.
ب ) مباحث معرفة الفاعلية الخاصة‌بمجال معين و بلحاظ شرط شيء (كمجال الشريعة)، و داخل المجال (كمجال المعاملات و مجال العبادات) لكل واحدة من الحجج.
ب/1ـ تبيين أنواع دلالات كل واحدة من الحجج في مجال الشريعة (تسويغ فاعلية الحجج في مقامي تحقيق الشريعة وتحققها،و تحصيل الانقياد قبال المولى).
ب/2ـ تعيين و تبيين الفاعليات الدلالية لكل واحدة من الحجج في كل واحد من أقسام مجال الشريعة.
رابعاً: معرفة‌حجية ‌الحجج:
أ ) إثبات الحجية العامة‌للأدلة (و تسويغ الدلالة) في كل واحدة ‌من الحجج في مجالات الدين.
ب ) إثبات و تسويغ الحجية الخاصة‌لكل واحدة من الحجج في مجال الشريعة.
خامساً: معرفة مساحة استخدام الحجج:
أ ) دراسة الشروط و الظروف العامة لاستخدام كل واحدة من الحجج في مقام تحقيق الدين و تحققه استخداماً ناجعاً.
ب ) دراسة الشروط و الظروف الخاصة للاستخدام المنتج لكل واحدة من الحجج في مقام تحقيق خصوص الشريعة و تحققها.
سادساً:‌معرفة‌علاقة الحجج (دراسة التعارض و التعاطي الداخلي و الخارجي):
أ ) فحص العلاقات الخارجية (دراسة‌التعامل العرضي و الترتّب الطولي) لكل واحدة من الحجج مع الأخرى في فهم الدين.
ب ) فحص العلاقات الخارجية لكل واحدة من الحجج مع الأخرى في مجال الشريعة.
ج ) فحص العلاقات الداخلية (دراسة‌تعارض و تراجيح الأفراد) في كل واحدة من الحجج مع الأخرى في مجال الشريعة.
سابعاً: معرفة‌آفات الحجج (دراسة أساليب فحص صحة‌التطبيق):
إ ) تبيين المعايير العامة‌لفحص صحة تطبيق الحجج في مجال الدين.
ب ) تبيين المعايير الخاصة لفحص صحة تطبيق كل واحدة ‌من الحجج في مجال الدين.
و النتيجة هي:
1 ـ مباحث المحاور 1 و 2 من جملة واجبات العلوم التي تتولى البحث في المباني البعيدة كالفلسفة المحضة، و العلوم التي تتولى البحث في المباني الوسيطة و القريبة كالفلسفات المضافة.
2 ـ مباحث البند >أ< في المحاور 3 و 4 و 5 و 6 تقع على عاتق «المنطق (العام) لفهم الدين» (الكليات).
3 ـ مباحث البند >ب< في المحاور 3 و 4 و 5 و 6 و كذلك البند >ج< من المحور السادس تقع على عاتق علم المناهج الخاص في كل مجال معرفي (كالأصول في المعرفة الفقهية).
4 ـ استخدام الحجج (استعمال الأدلة) يقع على عاتق العلوم التخصصية‌ذات الصلة بإنتاج المعرفة في مجالات الهندسة المعرفية للدين (كعلم الفقه في مجال الشريعة).
5 ـ فحص صحة المعرفة الدينية غير فحص صحة «استخدام المناهج و الحجج» في مجالات الهندسة المعرفية للدين. فالأول مسألة فلسفة المعرفة الدينية و المباحث العامة (الولاية العامة)، و الثاني مسألة فلسفة منطق فهم الدين (أو علم منطق فهم الدين) و المباحث التخصصية من عملية استخدام الحجج (فيما نحن فيه: معطوف على مجال الشريعة)، و يقع كذلك على عاتق فلسفة الأصول (أو علم أصول الفقه).
بعبارة أخرى: مثلاً حول الكتاب و السنة باعتبارهما حجة يمكن طرح المباحث التالية:
1 ـ إمكانية المعرفة 2 ـ منهجية و عملية المعرفة 3 ـ إفادة الكلام للمعرفة على الإطلاق (حجية المعرفة اللغوية) 4 ـ القواعد و الضوابط العقلائية العامة للاستظهار من النص 5 ـ ماهية و هوية الكلام المقدس و أقسامه 6 ـ الفاعلية المعرفية‌للكلام القدسي (إفادة لغة الدين للمعرفة) 7 ـ حجية‌(علم شريعة) ظواهر الكتاب و السنة على الإطلاق و في الجملة 8 ـ فحص العلاقة بين الكتاب و السنة، و بين كل منهما و العقل و الفطرة، تعاطياً و تعارضاً، في المباحث العامة لفهم الدين 9 ـ حجية الظواهر في الشريعة (مساحة التقنين) 10 ـ فحص العلاقة بين الكتاب و السنة و بين كل منهما و العقل و الفطرة تعاطياً و تعارضاً في مجال الشريعة 11 ـ القواعد و الضوابط العقلائية للاستظهار من النص في مجال الاعتبار 12 ـ الضوابط التخصصية لإبداء معنى الكلام المقدس و استخدامه في الكشف عن التعاليم الأحكامية 13 ـ مباحث سندية القرآن وانتسابه في حدود المسائل بلا واسطة ذات الصلة بأمر الاستنباط 14 ـ أساليب فحص وثاقة الخبر (طرق إحراز السنة) 15 ـ رفع التعارض الظاهري بين الآيات 16 ـ تعادل الأخبار و تراجيحها 17 ـ فحص صحة و علم آفات استخدام الكتاب و السنة في اكتشاف الشريعة 18 ـ دراسة سبل و طرائق تدارك الأخطاء ‌المحتملة ‌الوقوع.

مباني و مضامين التراث الحکمي ـ المعرفي الفاطمي

مباني و مضامين التراث الحکمي ـ المعرفي الفاطمي

بقلم: علي أکبر رَشــاد

قال الله العظيم في محکم کتابه الکريم: بسم الله الرحمن الرحيم، إنا أعطيناک الکوثر (1) فصلّ لربک و انحر (2)، إن شانئک هو الأبتر (3).(سورة الکوثر)
و قال عزّ من قائل: يؤتي الحکمة من يشاء و من يؤتِ الحکمة فقد أُوتي خيراً کثيراً و ما يذکّر إلا أولوا الألباب (البقرة، 269).(صدق الله العلی العظیم)
مدخل: نروم في هذا المقال و المجال المختصر تقديمَ إيضاح إجمالي لـ «مباني» / و تحليل مضغوط لـ «محاور مضامين» التراث الحکمي ـ المعرفي لسيدتنا الصديقةِ الکبری فاطمة الزهراء (ع).
و إيضاح ذلک أنه بالرغم من وجود الکثير من العوامل المثبِّطة و السلبية من قبيل:
1. قصرِ عمرِ السيدةِ فاطمة الزهراء (ع).
2. التمييزِ الجنسي الذي ظل سائداً بدرجات معينة علی مجتمع الحجاز يومذاک (…).
3. حالات المنع و الممنوعات التي فرضها الحکام بعد النبي الأعظم (ص) في مجال إعلان و إشاعة التعاليم الولوية من قبل المعصومين (ع) (…).
4. مساعي الأعداء الحِثيثة لإبطال مفعول اهتمامات و جهود أتباع أهل البيت (ع) في الحفاظ علی تراثهم المعرفي (…).
5. الدسائس العديدة المحاکة لطمس الآثار الحکمية و المعرفية لآل الله (ع) (…)، إلی درجة أن وثائق مثلُ مصحفِ الإمام علي (ع) (…)، و المصحف الفاطمي (…) کانت بلا شک بعيدةً عن متناوَل سوی الأئمة الأطهار (ع).
6. وثائق غنية و قويمة من قبيل ما أشير إليه (المصحفِ الفاطمي) بعيدة عن متناولنا. و کذلک:
7. تزامن الحياة المبارکة لسيدتنا فاطمة الزهراء (ع) مع حياة الرسول الأعظم (ص) و الإمام علي (ع)، حيث الحرمة التي تراها عليها السلام لمقام النبوة و الإمامة (…) من جهة، و تألق الشخصيتين المذهلتين للرسول الأکرم (ص) و الإمام علي (ع) من جهة ثانية، أدّی إلی أن تکون السيدةُ الزهراء (ع) في الظل، و بالتالي:
8. علی الرغم من القيود التي يُخال أنها شرعية أو التي يُؤمِن بها المتشرعة، و التي تؤثِّر، شئنا أم أبينا، علی تألق شمس وجود هذه السيدة العظيمة (ع) في آفاق المجتمع؛ فمن العجيب أنه لا يزال ثمةَ تراث کبير من الحکمة الکوثرية تتمتع به البشرية، و هذا الأمر بحد ذاته من التجليات العينية لکوثرية تلک السيدة الجليلة.
عمق و عظمةُ التراث الفخِم و الفاخر الصادر عن الساحة السماوية لهذه السيدة التي هي سيدة السيدات، يدعو کلَ إنسان بصير و صاحب قلب يقظ إلی التعمّق في التفکير، و يدفعه إلی الإعجاب و الانبهار. و ما کل هذا إلا لأن هذه المعارف مبنية علی صرح شاهق، و نابع من مصادر ملکوتية، و هو تماماً وليد أن التقييم المعرفي للتراث الغني القويم للحکمة الکوثرية يقتضي: أن يُجرَي التدقيق و التمحيص المناسب في «مبانيه» و مصادره من جهة، و أن تُخضَع مضامينُه و فحواه لتحليل المحتوی و التبويب الموضوعي المناسب من جهة ثانية. و لهذا فقد أعددنا بدورنا هذا المقالَ القصيرَ في قسمين: في القسم الأول سوف نخوض في تبيان المباني و المصادر «الأنثروبولوجية»، و «الماورائية/اللاهوتية»، و «الکلامية/الإلهياتية»، و «المعرفية»، و « التربوية» للحکمة و المعرفة الفاطمية، و في القسم الثاني سنکتفي ـ لمراعاة المجال المحدود للمقال و المجلس و من باب النموذج، بمراجعة إجمالية و تنسيق موضوعي لوثيقة واحدة من الوثائق المتاحة، أَلا و هي الخطبة الفدکية للصديقة الزهراء (ع).

القسم الأول:
في هذا القسم نُراجع و نُحلل بعض المباني و المصادر حسب الترتيب المشار إليه، و نقدم نماذج لمحصّلة کل واحد من هذه المباني:

أولاً: المباني الأنثروبولوجية:
أولاً: الإنسان ـ طبعاً إذا بقي علی فطرته الإلهية، و ليس کل حيوان منتصب القامة ولد من الإنسان ـ هو مهبط المعرفة الإلهية. و قد قال الله عزّ و جلّ: «و علّم آدم الأسماء کلها…» (البقرة، 21). و قد ولدت هذه السيدة الجليلة علی الفطرة. يروي سعيد بن المسيب و هو أحد مشاهير رواة أهل السنة، عن الإمام علي السجاد (ع) بأن الرسول الأکرم (ص) و خديجة الکبری (ع) ليس لهما ولد علی الفطرة الإسلامية إلا فاطمة (ع). (الکليني، 8 / 340 ؛ الحلي، المختصر النافع، 131).
ثانياً: کانت فاطمة الزهراء (ع) إنساناً کاملاً (…)، و الجهل و هو نقص لا ينسجم مع کمالها. و بعبارة أخری: الإنسان الکامل يجلي الأسماء و الصفات الإلهية، و الحق المتعال هو علم محض، إذن الإنسان موضع تجلي الوعي و المعرفة الخالصة. و بعبارة ثالثة: الجهل ناتج عن المضايقات الوجودية و المراتب الدنيا للإنسان الجاهل، أما الإنسان الکامل فبمقتضی مرتبته الوجودية و سعته الوجودية مسلط و مسيطر علی حقائق الوجود و الحياة و دقائقهما. و إذن، لا يمکنه أن يکون أسيراً للجهل. و لهذا فقد کانت عليها السلام مطلعة علی «غيب» العالم و «شهادته».

ثانياً: المباني و المصادر العرفانية و الماورائية:
أولاً: کانت ذاتها نورانية، و بالتالي فهي لا تقبل الظلام. و الجهل ظلام. يقول الإمام الصادق (ع) في وجه وصف الزهراء (ع) بصفة الزهراء بأن الحق تعالی خلقها من نور عظمته، و حينما سطعت أنارت السماوات و الأرض بنورها. (الصدوق، علل الشرايع، 1 / 179 – 180). و قال أيضاً إن نوراً يسطع من وجه الصديقة الزهراء ثلاث مرات في اليوم (صباحاً و ظهراً و غروباً)، و قد کان هذا النور معها دوماً إلی أن ولد الإمام الحسين (ع)، فکان هذا النور من بعد ذلک في وجوه الأئمة (ع)، و سوف يستمر سطوع هذا النور إلی قيام القيامة، و کلما رحل إمام انتقل هذا النور إلی وجه الإمام الذي يليه (مصدر سابق، 180 – 181) (راجع: الموسوعة الفاطمية، مقالة الأسماء و الأوصاف).
ثانياً: کان لديها «علم لدنّي» و «علوم إيهابية» (…)، و العلم اللدنّي هو العلم الذي يتعلمه أهل القرب من الربّ من دون واسطة بشرية أو ملک من الملائکة. و قد استقي هذا المصطلح من الآية: «و آتيناه من لدنّا علماً». و العلم اللدنّي علی ثلاثة أقسام: الوحي، و الإلهام، و الفراسة (الکشاف، ص 1066).
ثالثاً: للسيدة الزهراء (ع) أرقی مراتب الإخلاص التوحيدي و العبودية الإلهية (…)، و قد ورد: «من أخلص لله أربعين… » (…)، و قد قضت عليها السلام لا أربعين يوماً و ليلة بل عمرها کله في الإخلاص و العبادة (…)، لذلک فهي تتمتع بمواهب هذا الوصف بأعلی المراتب و الدرجات.

ثالثاً: المباني و المصادر الکلامية – الإلهياتية:
و نکتفي هنا بذکر نموذجين:
أولاً: حسب دلالة الآية الشريفة «إنما يريد الله ليذهب عنکم الرجس أهل البيت و يطهرکم تطهيراً» (الأحزاب، 33)، فإن لفاطمة الزهراء (ع) مقام العصمة. و بسبب تحليها بهذه الموهبة فإن وجودها منزه عن کل رجس و درن. إنها لا ترتکب أي خطأ أو خلاف في مقام تلقي الحقائق، و في مقام بيان الحقائق، و نقلها إلی الغير، و کذلک في مقام السلوک و التصرفات. الجهل من أهم عوامل تلوث الإنسان بالأدران، و الإنسان المعصوم لا يمکنه أن يبتلی بالجهل. تلقيب سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) بلقب الصديقة ربما کان بمعنی تحلي هذه السيدة بهذا المقام و الموهبة. و فسّر العلامة المجلسي أيضاً لقب الصديقة بمعنی المعصومة (جلاء العيون، 162). (راجع: الموسوعة الفاطمية، مقالة الأسماء و الأوصاف). و قد سمّاها الرسول الأعظم (ص) بالصديقة الکبری (الصدوق، الأمالي، 74 ؛ البحراني، حلية الأبرار، 2 / 36) ليشير إلی تفوقها علی مريم الصديقة (ع).
ثانياً: کانت فاطمة الزهراء (ع) محدّثة. فحسب روايات متعددة کان ملک الوحي يتحدث معها و يطلعها علی بعض الحقائق (الکليني، 1 / 241 – 242 ؛ الصدوق، علل الشرايع، 1 / 182 – 183 ؛ الطبري الإمامي، 81). و حسب قول الإمام الصادق (ع) فإن سبب تلقيب السيدة فاطمة الزهراء (ع) بالمحدثة هو أن ملائکة السماء کانوا ينزلون عليها و يحدثونها، کما کان الأمر بالنسبة لمريم (ع) (الصدوق، علل الشرايع، 1 / 182). و مصحف فاطمة (ع) هو حصيلة الوحي الإلهي غير التشريعي الذي وافی جبرائيل به فاطمة (الموسوعة الفاطمية، مقالة مصحف فاطمة (ع). راجع: الموسوعة الفاطمية، مقالة أن السيدة فاطمة محدّثة).

رابعاً: المباني و المصادر المعرفية:
المعرفة هي حصيلة الأطراف الثلاثة «العارف» و «المعروف» و «حوالي المعروف» (راجع: نظرية الابتناء، هيئة دعم مقاعد التنظير، صص 60 – 63). و بتعبير آخر: مواجهة الإنسان للمعلوم بالعرض ـ في عملية تلعب فیها موانع المعرفة و معدّاتها دورها شئنا ذلک أم أبينا ـ تفضي إلی ظهور المعرفة. خلوص المعرفة و تعبيرها عن الواقع منوط بحدود «قوة فاعل المعرفة» من جهة، و مستوی «قابلية متعلق المعرفة للمعرفة» من جهة ثانية، و مواکبة المعدّات و الموانع من جهة ثالثة. العارف السليم الفطرة و الکامل و المعصوم و المتمتع بمواهب خاصة لا يتعرض للفتور و الخطأ المعرفي، لأنه بسبب تمتعه ببعض الإمکانيات و القدرات يوظف معدات المعرفة، و يحبط مفعول موانع المعرفة و قيودها، و هکذا تتروّض له الحقيقة و تسلم نفسها له بسهولة.
و يمکن عرض الحکمة و المعرفة الفاطمية معرفياً بتقارير مختلفة أخری. لکننا نکتفي هنا بهذا التقرير.

خامساً: المباني و المصادر التربوية (العائلية و الاجتماعية و التاريخية):
مع أنه بالنظر للشؤون و الشخصية الماورائية و المقامات و المراتب الإلهية للسيدة فاطمة الزهراء (ع) فإن عرض مباني حکمتها و معرفتها في غنی عن استعراض مثل هذه المباني، و لکن احترازاً لترک بُعد من أبعاد البحث حول مباني الحکمة الفاطمية، نشير في ما يلي إلی بعض فقرات هذا الجانب:
1. الأصالة العائلية و شخصية والدي السيدة الزهراء (ع): تشدّد علوم الأحياء و التربية المعاصرة علی الدور الکبير و الحاسم لعامل الوراثة في کمالات و نواقص الأفراد، بما في ذلک علی صعد تحصيل المعرفة و حصول الحکمة. و السيدة الزهراء (ع) من سلالة إبراهيم الخليل (ع) (…)، و في هذه السلالة الکثير من الأنبياء و الأولياء و الصالحين النخبة (…)، لذا يجب بصورة طبيعية أو تکون ذات مواهب و قابليات علی التمتع بمراتب ملکوتية في الحکمة و المعرفة.
2. التربية النبوية: السيدة الزهراء (ع) أبنة الرسول الخاتم (ص) و ربيبة حجر النبوة، و مربّيها هو أعظم کل المربّين في البشرية (…)، و الذي بُعث لتربية کل البشرية (…)، و الشخص الذي ترک بتعاليمه تأثيرات عميقة و واسعة علی کل العالم (…). إن قليلاً من التأمل في هذه الموهبة التي اختصت بها سلام الله عليها دون غيرها يکفي للاعتراف بإمکانية تکوّن حکمة باهرة و معرفة عميقة في وجودها المبارک، و توفرها علی مستويات استثنائية من الحکمة و المعرفة لا تتاح لأحد.
3. ملازمتها و مؤانستها (ع) في آنات نزول الوحي: لقد کانت عليها السلام حاضرة في معظم أحيان نزول جبرائيل الأمين و آنات الوحي التشريعي إلی جانب والدها، و قد اتصلت بلا واسطة و بلا شائبة بتعاليم الوحي السامية، و کانت مرتبطة دوماً بملائکة الله معاشرة لهم. فهل يمکن تجاهل هذه الملازمة و المؤانسة و دورها في صناعة شخصيتها و معارفها و تکوين شخصيتها و تعيين نوعية و حدود معارفها التي اکتسبتها؟ أبداً.
4. المسألة الرابعة التي نشير لها في إطار هذا المبنی هي دور الظروف التاريخية – الاجتماعية في صناعة شخصيتها و إيجاد معارفها. بالنظر لقاعدة (في الجملة صائب، و ليس بالجملة صادق) لتزمّن المعرفة و ولادتها من الظروف (و التي يمکن تسميتها بمبدأ الاندکاک و التواصل الحتمي لکل البشر بالآفاق التاريخية – الاجتماعية للمعرفة)، لا يمکن إنکار الدور الإيجابي لعناصر من قبيل «شياع أسئلة العصر» الجديدة، و «التداول الحرّ للمعلومات»، و کذلک نصيب «شياع تضارب الآراء و الأفکار»، و وجود مناخ فکري ـ علمي منفتح، و…، في ظهور المعرفة و الحکمة و انتشارهما في الجيل المتصل بهذه الظروف و الحيثيات. و في ضوء الأوضاع الفذة للعهد النبوي من النواحي المذکورة – و شرح ذلک لا يستوعبه هذا المقام العاجل – فقد کانت الصديقة الزهراء (ع) تعيش ظروفاً جد ممتازة و استثنائية حتی من حيث الأسباب العادية لتحصيل المعرفة و اکتساب الحکمة.
و يمکن طرح و شرح مبان و مصادر أخری غير هذه للحکمة و المعرفة الفاطمية، و لکن نکتفي بما ذکرنا لضيق المجال، و ننتقل إلی القسم الثاني من المقال.

 

و أما القسم الثاني فهو تحليل و تبويب محتوی الخطبة الفدکية:
مع أن في أيدينا حالياً نصوصاً لثلاث خطب للسيدة الصديقة الزهراء (ع) (…)، لکن خطبة اللمة المشهورة بالخطبة الفدکية تمتاز بخصائص جد ممتازة و مذهلة، تجعلها مميزة جداً بين کل الوثائق القدسية و المعصومة المتبقية عن المعصومين (ع).
فضلاً عمّا تتميز به هذه الخطبة من البلاغة الأدبية الخارقة، فإنها بالرغم من قصرها و اختصارها تماثل فاتحة الکتاب التي هي عِدل مضغوط للقرآن الکريم، بل و سمّيت بأمّ الکتاب، إذ يمکنها أن تکون ديباجة لنهج البلاغة العلوي، و بالمقدور اعتبارها نهج بلاغة مضغوط.
و تتجلي عظمة هذه الحقيقة أکثر حين نتفطن إلی أن هذه الخطبة القصيرة و لکن العميقة و النافذة صدرت عن الأفق الفاطمي المعصوم قبل ربع قرن من صدور مفاد أقسام نهج البلاغة عن الساحة العلوية العليا.
هذه الخطبة الملحمية – المعرفية التي تعدّ من الوثائق المهمة لمظلومية أهل البيت (ع) و أحقیتهم لها شمولية مضمونية مذهلة، و يمکن بتحليل محتواها فضلاً عن اصطياد و استقاء الأفکار التاريخية و الاجتماعية، استخراج أمهات التعاليم الوحيانية في شتی المجالات. و إن تبيين محتوی هذا النص العميق العريق يظهر حدة و سعة أفق صاحب النص، و يعرض علی أنظار العالم إحدی المعاجز التربوية النبوية.
تحليل و تفسير محاور فحوی الخطبة بشکل تفصيلي يتطلب طبعاً فرصة واسعة. و نحن هنا سوف نکتفي باستعراض هو أشبه بالفهرس للمحاور الأصلية في الخطبة. و قد جرت دراسة أفکار الخطبة و موضوعاتها تفصيلياً في مقالات الموسوعة الفاطمية.
تشتمل خطبة اللمّة علی بحوث عميق و دقيقة في مجالات: علم الوجود، و علم المعرفة، و فلسفة الدين، و علوم القرآن، و القضايا الکلامية الدقيقة، و مباني الإمامة، و فلسفة السياسة، و تعاليم الإسلام السياسية، و شؤون الأمة الإسلامية، و فلسفة الأحکام و المسائل الفقهية، و فلسفة الأخلاق و التعاليم الأخلاقية الإسلامية، و … و کذلک تاريخ الجاهلية، و أحداث العهد النبوي، و مصائب أيام رحيل الرسول الأکرم (ص)، و أمر الخلافة بعد الرسول، و… .
في هذه الخطبة التي ألقيت اعتراضاً علی مصادرة مزرعة فدک من قبل جهاز الخلافة، تبدأ الصديقة الزهراء (ع) الکلام بحمد الله و الثناء عليه و ذکر نعمه و شکرها. ثم تستعرض بإجمال و لکن بتعابير عميقة توحيد الله و صفاته. ثم تتطرّق لضرورة الدين و النبوة و دور رسول الله (ص) في إبلاغ الوحي و إرشاد الناس. ثم تتحدث عن واجب المسلمين في السير علی نهج القرآن الکريم، و خلود الوحي الإلهي و شمولية محتواه اعتماداً علی أدلة واضحة متقنة. بعدها تشير إلی حکمة الأحکام الإلهية في جملات موجزة.
ثم تشرع في تعريف نفسها کأبنة رسول الله (ص)، و تؤکد علی أنها صادقة في قولها، و تطرح قرابتها و زوجها من رسول الله (ص)، و تتحدث عن صعوبات إبلاغ أوامر الله من قبل الرسول و الظلمات التي کان يعيشها الناس قبل نزول الوحي، و تنبّه کيف أعان زوجها الإمام علي (ع) الرسول الأعظم (ص) في دربه لإنقاذ الناس من الجاهلية و في قمع الکفار. ثم تعرّج علی بيان النفاق بين المسلمين، و تنتقد الذين يقعون في الفتنة اجتناباً للوقوع فيها، و تتحدث عن تنکّر الناس لکتاب الله و سحقهم سنّة رسول الله (ص). إنهم يدعون في الظاهر أنهم قاموا بهذا من أجل الدين، لکنهم فعلوا ما فعلوه من أجل أنفسهم في حقيقة الأمر. و بهذا الحديث تتطرّق عليها السلام لقضية مصادرة فدک و غصب ميراثها من رسول الله (ص)، و تنتقد حرمان أهل البيت (ع) من الأرث و هو حکم الله، و تسألهم هل يريدون العمل بأحکام الجاهلية؟ و تنتقد أبا بکر ذاکرة آيات من القرآن الکريم تلفت لها نظر الخليفة الذي يتعارض سلوکه مع القرآن الکريم.
ثمّ تتوّجه إلی قبر الرسول الأکرم (ص) و تنشد أبياتاً تشتکي فيها ظلم الناس، ثمّ تتوّجه نحو الأنصار و تنتقد بشدة ما فعلوه و عدم نصرتهم أهل بيت النبي (ع)، و تحذرهم من الأحداث التي ستقع في المستقبل، منبّهة إلی أن الأنصار يعملون علی العودة إلی الجاهلية و العدول من الإيمان إلی الشرک. ثم تقول عليها أفضل الصلاة و السلام إني أعلم أنکم لستم ذوي نصرة، و تؤکد أن قولها هذا لإتمام الحجة، ثم تقول خذوا ناقة الخلافة و هي معيبة دوماً و موصومة بالعار الأبدي.
علي أکبر رشاد
أستاذ البحث الخارج في الفقه و الأصول
بحوزة طهران للعلوم الدينية