«نظرية الابتناء»
ابتناء تكوّن المعرفة الدينية وتطوّرها على التأثير ـ التعاطي المتناوب- المستمر للأصول الخمسة
تأليف: علي أکبر رشاد
ترجمة: حسين صافي
رعد حجاج
لمحة:
ما برحت عملية تكوّن المعرفة وتبلورها مثار نقاش وجدل بين مختلف الفلاسفة الذين طرحوا نظريات عديدة بشأنها، منها، على سبيل المثال، نظرية العقول، نظرية المُثُل، نظرية کانط …إلخ، غير أنّ تكوّن المعرفة الدينية وتحوّلها ظلّت بعيدة عن الأضواء والاهتمام، حيث لم تشهد الساحة نظريات ذات شأن في هذا المجال، من هنا انبرى الباحث المحترم إلى طرح نظريته الموسومة بـ«نظرية الابتناء» والتي يسلّط الضوء فيها على الکيفية المنظّمة لتبلور المعرفة الدينية وتحوّلها.
بحسب کاتب البحث، فإنّ المعرفة الدينية هي نتاج عملية (process) التأثير ـ أي التعاطي المتناوب- المتتابع لأصول الدين الخمسة، في إطار رسالة إلهية، وفي حال تکوّن رؤية صائبة وجامعة عن هذه الأصول ، ومن ثمّ توظيفها توظيفاً صحيحاً ودقيقاً، والحيلولة دون نفوذ المتغيّرات السلبية والمُحَرِّفة، حينذاک يمکن الوصول إلى کشف صائب وشامل للدين، وتطبيق عصري ومنتج له في عقول البشر وحياتهم.
لقد تهيّأت مجلة قبسات الفصلية لعرض «نظرية الابتناء» على قرائها من المفکّرين والمثقفين، إلاّ أنّها آثرت التريّث إلى ما بعد انعقاد الندوة العلمية الخاصّة بنقد هذه النظرية والدفاع عنها والبتّ بشأنها، وبالفعل، انعقد «المؤتمر الرسمي للتقييم والحکم» بإشراف الهيئة الخاصة لدعم ندوات التنظير، لتلتئم على إثر ذلک ندوة نقاشية نقدية (برعاية المجلس الأعلى للثورة الثقافية) في شهر شباط من عام 2009 ثمّ توالت الندوات في شهري أبريل/نيسان ويوليو/تموز من نفس العام وذلک بحضور هيئة التحکيم التي ضمّت في عضويّتها العديد من أساتذة الحوزة العلمية في قم ولجنة النقّاد، کما حضر الندوة جمع من طلاب العلوم الدينية والأکاديميين المتخصّصين في حقول ابستمولوجيا وميثودولوجيا >أي معرفية ومنهجية< فهم الدين، وقد استمرّت اجتماعات الندوة لأکثر من عشر ساعات، تمّ خلالها استعراض مختلف جوانب النظرية بالنقد والتحليل والتقييم، وفي المقابل دافع الباحث عن نظريّته، ليستقرّ الأمر في نهاية المطاف عند إجماع أعضاء هيئة التحکيم على تأييدها کنظرية جديدة وذلک بتاريخ 1/7/2009.
وبهذه المناسبة، إذ تتقدّم مجلة قبسات بأجمل التهاني إلى الباحث المحترم على هذا النجاح المتميّز، تعرض في هذا العدد شرحاً مرکّزاً وسريعاً للأسس الأربعة التي تتضمّنها النظرية وذلک لتطّلع عليها النخب الفکرية المتخصّصة في حقل فلسفة الدين والدراسات الدينية، کما تعلن المجلة، في الوقت ذاته، عن ترحيبها بأيّ انتقادات أو ملاحظات حول نظرية الابتناء، وتتعهّد بنشرها کما هي دونما تصرّف في العدد التالي من المجلة.
نبذة
المهمّة الرئيسية التي تضطلع بها فلسفة المعرفة الدينية هي، شرح عملية وآلية تكوّن المعرفة الدينية وتطوّرها. وتتکفّل نظرية «الابتناء» بهذه المهمّة، مضافاً إلى وضع الأسس الخاصة لصياغة «منطق معاصر وشامل لفهم الدين».
وتقول هذه النظرية (باختصار): «إنّ المعرفة الدينية هي نتاج التأثير ـ التعاطي المتناوب- المتواصل لأصول الدين الخمسة، وفي إطار رسالة إلهية». وترتکز نظرية الابتناء على أربعة ركائز هي بمثابة أسس نستعرضها کالتالي:
الأساس الأول: إنّ تكوّن المعرفة الدينية عبارة عن عملية متمرحلة، والمعرفة الدينية هي حصيلة تلک العملية.
الأساس الثاني: تنطوي الآليات المکوّنة لعملية تكوّن المعرفة الدينية على طبيعة ثنائية ( من حيث الصحّة والسقم)، وبالنتيجة، صواب المعرفة الدينية أو عدمها.
الأساس الثالث: رساليّة الدين، واشتماله على الأصول الخمسة المؤثّرة في فهم تلک الرسالة.
الأساس الرابع: ابتناء الکشف والتطبيق الصائب والجامع للدين على الکشف والتطبيق الصائب والجامع للأصول الخمسة والحؤول دون نفوذ العوامل السقيمة والمُحَرِّفة .
الکلمات المفتاحية: نظرية الابتناء، المعرفة الدينية، المقولات الدينية، تكوّن المعرفة الدينية، تطوّر المعرفة الدينية وتحوّلها، الأصول الخمسة، الترکيبة الثلاثية في البناء المعرفي.
مدخل
المعرفة الدينية هي «حصيلة المحاولات المستدلة للکشف عن مقولات الدين وتعاليمه». أو، بعبارة أوضح «إنّها المنظومة المعرفية المتولّدة عن تطبيق منهجية معتبرة أو مستدلّة للکشف عن القضايا الدينية».
وفلسفة المعرفة الدينية کذلک هي «العلم الفلسفي الذي يتيح دراسة ما وراء عقلانية بشأن الأحکام الكليّة لأمّهات قضايا المعرفة الدينية».
ومن جملة المسؤوليات المهمّة لهذا العلم شرح عملية تكوّن المعرفة الدينية وضبط آلياتها وتکاملها وتطوّرها. يسعى هذا البحث إلى توضيح نظرية تحت عنوان «نظرية الابتناء»، والتي تتکفّل بتفسير عملية وآلية تكوّن المعرفة الدينية.
شهدت عملية تكوّن المعرفةـ بما فيها الصحيحة والسقيمة- وطريقة حصولها وتبلورها، تاريخاً طويلاً حافلاً بالنظريات التي طرحها فلاسفة ينتمون إلى مذاهب شتى، بيد أنّنا لم نشهد ظهور نظريات علمية محدّدة ومنسجمة على صعيد عملية المعرفة الدينية وصيرورتها والآليات التي تضبطها، وإن کان باستطاعتنا الوقوف على عدد من الآراء بين ثنايا نظريات بعض أصحاب الرأي والمعرفة بشأن موضوع المعرفة الدينية.
إلاّ أنّ هؤلاء، مع ذلک، لم يتناولوا مطلقاً عملية المعرفة الدينية وآليات ظهورها بشکل واضح ومقصود. وفي هذا المجال، ومن بين الغربيين ظهر الهرمنوطيقيون، الذين راحوا يطرقون أبواب تبلور المعرفة وتأثير طائفة من العوامل المعرفية وغير المعرفية على مسار تفسير النص، (انظر: پالمر، 1998)، ولکن من دون أن يخوضوا في تفسير عملية تكوّن المعرفة الدينية. وبدورها اعتنت نظرية القبض والبسط، وهي نظرية هرمنوطيقية، بمسألة «تطوّر المعرفة الدينية» لا تفسير تكوّن المعرفة. (انظر: سروش، 1998).
لعلّ أسئلة عديدة يمکن أن تثار حول موضوع «تكوّن المعرفة الدينية» والقضايا المتّصلة بها، وهذه الأسئلة من قبيل:
1. ما هو وجه أو أوجه الاختلاف والشبه بين المعرفة الدينية ومطلق المعرفة؟ هل إنتاج المعرفة الدينية محکوم، بشکل صارم، بقواعد المعرفة العامة وضوابطها؟ بمعنى، هل يرتبط ذينک النمطين من المعرفة بجوهر ومصير واحد؟ وإذا لم يکونا کذلک، فإلى أيّ مدى ينسجمان، وفي أيّ نقطة يتنافران؟
2. في فهمه للدين واستنباطه منه، هل يتعاطى المجتهد الديني مع «النصوص الدينية» فحسب، لتکون المعرفة الدينية مجرّد نتاج للنصوص المقدسة؟ أعني، هل المعرفة الدينية من نمط المعارف أحادية المصدر؟
3. وإذا لم تکن المعرفة أحادية المصدر، ما هي، إذن، مصادر المعرفة؟
4. وسواء أکانت المعرفة أحادية المصدر أم لم تکن، هل المعرفة الدينية هي نتاج المصادر الدينية فحسب؟
5. وإذا لم تکن کذلک، فما هي العوامل المؤثّرة فيها، عدا المصادر الدينية؟
6. بالنسبة لعوامل تكوّن المعرفة الدينية، ما مدى العلم أو الجهل بها؟
7. ولو افترضنا العلم بهذه العوامل، فما هو نطاق العلم الإرادي أو اللاإرادي فيها؟
8. وفي کلّ الأحوال، ما هي حصّة ودور کل فئة من هذه العوامل الإرادية واللاإرادية، وإلى أيّ مستوى؟
9. هل للمتغيّرات الدخيلة (التي لها دور أو حصّة) في تبلور المعرفة الدينية، نفس الطبيعة والتأثير؟ وفي حال کان الجواب بالنفي، فما هي طبيعة العلاقة بين العوامل آنفة الذکر؟
10. ألن يؤدّي تدخّل العوامل غير المصدرية إلى حرف المعرفة وبالتالي شوب المعرفة الدينية بالأخطاء؟
11. إذا صنّفنا العوامل الدخيلة إلى مفيدة ومضرّة، فکيف يمکن التمييز بين العوامل المضرّة والمتغيّرات المفيدة والصائبة؟
12. ما هو معيار أو معايير الدور الحقّ (الصائب) للعوامل والدور الباطل (غير الصائب) لها؟ کيف يتأتّى لنا تصنيف العوامل والمتغيّرات إلى صنفين، صنف صائب وآخر غير صائب؟
13. هل العوامل المؤثّرة المُحَرِّفة، قابلة للتحکّم والسيطرة أم إنّها خارج نطاق السيطرة؟ بعبارة أوضح، هل تدخّل العوامل المضرّة أمرٌ لا مهرب منه، أم يمکن تحاشيها والحدّ من تأثيراتها؟
14. في حال مجهوليّة بعض العوامل المؤثّرة، أو بروز تأثيرات لاإرادية قاهرة للعوامل المضرّة المعلومة، هل بالإمکان، في هذه الحالة، رفع الضرر عن المعرفة الدينية؟
15. هل المعرفة الدينية قابلة للتطوّر والتحوّل؟
16. إذا کان الجواب بنعم، فهل يأخذ تطوّر المعرفة الدينية مساراً تصاعدياً تکاملياً، أم تنازلياً تراجعياً، أم الاثنين معاً؟
17. وفي جميع الأحوال، هل عوامل تكوّن المعرفة الدينية وعوامل تطوّرها وتکاملها واحدة؟
18. وإذا کانا شيئين مختلفين، فأيّ منها يعتبر عوامل التكوّن، وأيّ منها أسباب التطوّر؟
19. وإذا کان ثمّة فارق أو فوارق بين هاتين الفئتين، فما هي الفوارق؟ وأساساً، ما هي طبيعة العلاقة التي تحکم الفئتين؟
20. وعلى کلّ حال، هل تكوّن المعرفة الدينية (وتطوّرها أيضاً) عبارة عن عملية معقّدة، أم سهلة على غرار الترجمة؟ (هل دور المجتهد يقتصر على الترجمة أم معالجة المعرفة)؟
21. في حال کونها عملية، فما هو کنه عملية المعرفة الدينية؟
22. هل عملية المعرفة الدينية على نمط واحد أم أنماط عدّة؟ بمعنى، هل آليّات المعرفة الدينية المتنوعة، نتاج عملية موحّدة؟
23. هل عملية تكوّن المعرفة الدينية واحدة في جميع مجالات وأضلاع الهندسة المعرفية للدين؟
24. هل بالإمکان الکشف عن عملية المعرفة الدينية؟
25. ما هو الأساس والمنطق الذي تعتمده مسألة الکشف عن عملية تكوّن المعرفة الدينية؟
هذه نماذج من الأسئلة المطروحة حول تكوّن المعرفة الدينية وما يتّصل بها من قضايا ومسائل. وبشأن مختلف القضايا المتعلقة بالمعرفة الدينية في عصرنا، فهناک أسئلة کثيرة طُرحت، وأخرى جديدة ما تزال تُطرح باستمرار.
صحيح أنّ الرسالة الأصلية والذاتية لنظرية الابتناء تتلخّص في «تفسير عملية تكوّن المعرفة الدينية والآليات الخاصّة بها، ولکن من خلال التقرير الکامل لهذه العملية وآلية تحوّلها سوف تظهر لدينا لمحات من تعدّد المعرفة الدينية وتکاملها أو تنزّلها، مضافاً إلى ترشّح الکثير من أجوبة الأسئلة المطروحة أعلاه.
وفيما يلي عرض موجز للنظرية:
«المعرفة الدينية عبارة عن نتاج عملية التأثير ـ التعاطي المتناوب- المستمر لأصول الدين الخمسة، في إطار رسالة إلهية».
في حال إحراز رؤية صائبة وجامعة عن هذه الأصول ، والتطبيق السليم والدقيق لها، والحؤول دون تدخّل المتغيّرات السقيمة والعوامل المُحَرِّفة يمکن، بشکل عام، الکشف الصائب والجامع للدين والتطبيق العصري والمنتج له في عقول البشر وحياتهم. وتأسيساً على نظرية الابتناء ـ والتي بالإضافة إلى دورها في شرح تكوّن المعرفة الدينية وتطوّرها- يمکن أن تشکّل إطاراً نظرياً مناسباً لوضع أو تأسيس منظومة منهجية تکون «واقعية» و«جامعة» و«تامّة» و«أصيلة» و«معتبرة» و«معاصرة» و«منتجة» و«مستحدثة» و«کاشفة للتکامل».
الأسس الأربعة للنظرية
تتألّف نظرية الابتناء من أربعة أسس نشرحها کما يلي:
الأساس الأول: إنّ تكوّن المعرفة الدينية عبارة عن عملية متمرحلة، والمعرفة الدينية هي حصيلة تلک العملية.
الأساس الثاني: تنطوي الآليات التي تتألف منها عملية تكوّن المعرفة الدينية على طبيعة ثنائية (لجهة الصحّة والسقم)، وبالنتيجة، إمکان صواب المعرفة الدينية أو عدمها.
الأساس الثالث: رساليّة الدين، واشتماله على الأصول الخمسة المؤثّرة في فهم تلک الرسالة.
الأساس الرابع: ابتناء الکشف والتطبيق الصائب والجامع للدين على الکشف والتطبيق الصائب والجامع للأصول الخمسة.
إنّ نظرية العقول هي نظرية تتناول شرح مسار نشأة المعرفة ومنظومتها والآليات الخاصّة بها.
(ابن سينا، بدون تاريخ: 2، الفصول 10، 11، 12، 13 و14؛ صدر الدين الشيرازي، بدون تاريخ: 475 ـ 452). ونظرية المُثُل أيضاً تسعى إلى شرح عملية تكوّن المعرفة (صدر الدين الشيرازي، بدون تاريخ: 1، 344 ـ 340 و356). وکذلک الحال مع نظرية المعرفة لـ«کانط» فهي شرح آخر لعملية نشوء معرفة الإنسان (انظر: هارتناک، 1997). فعندما تؤمن جميع هذه النظريات بأنّ المعرفة عبارة عن عملية متمرحلة، فهي، لا شکّ، تنظر إليها على أنّها نتاج لتلک العملية. يؤکّد الأساس الأول في نظرية الابتناء أيضاً على هذه الحقيقة، وطبقاً له، فإنّ المعرفة الدينية کذلک، على غرار المعرفة المطلقة، غير مستثناة من هذه القاعدة. وفيما يلي نشرح بإيجاز الأسس الأربعة للنظرية:
الأساس الأول
يقول هذا الأساس:
«إنّ معرفة الإنسان عبارة عن حصيلة تفرزها عملية التأثير ـ التعاطي ـ بين عوامل عديدة «معرفية» و«لامعرفية»، و«مناسبة» و«غير مناسبة» و«إرادية» و«لاإرادية»، وإنّ الفهم والمعرفة هما غير الترجمة والتلقّي. وبدورها تتبع المعرفة الدينية، والتي هي شعبة من المعرفة، هذه القاعدة.
ينبني هذا الأساس، لا بل نظرية الابتناء برمّتها، بلحاظ ابستمولوجي على نظرية المعرفة، نعبّر عنه بـ«وحدة مثلثة الأضلاع في بناء المعرفة». من هذا المنطلق، نبيّن هنا سريعاً النظرية المذکورة:
1. إنّ المعرفة التامّة واللامتناهية هي من اختصاص الذات التامّة اللامتناهية، وبمقتضى کون سائر الموجودات محدودة ومشروطة، – بما فيها الإنسان- فإنّ جميع محتويات هذه الموجودات، ومن جملتها المعارف، محدودة ومشروطة.
(من المعلوم أنّ المحدودية والمشروطية لا تقترنان، بالضرورة، بالخطأ).
2. علاوة على الخصال النوعية الذاتية المؤثّرة على مستوى المعرفة البشرية وسعتها، فإنّ أفراد النوع البشري يمتلکون خصائص شخصية سلبية وإيجابية متنوعة، وهي بنحو أو بآخر تؤثّر في عملية تكوّن معرفته.
3. إنّ القضايا التي تشکّل موضوع المعرفة لا تنطوي جميعها على نفس الجوهر والمواصفات، ومن هنا، فإنّ عناصر موضوع الذات/العارفة تتباين فيما بينها في نمط تعلّق المعرفة وکيفيتها وحدودها وحيثيّتها، وفي قابلية التعرّف أو عدمه، وسرعة الفهم أوبطئه.
4. بالإضافة إلى رکني العارف والمعارف أو المعلومة، وهما من العوامل الرئيسية والأساسية في عملية تكوّن المعرفة (وإن کان أحدهما فعالاً والآخر منفعلاً)، هناک رکن ثالث يسمّى «المعارف التکميلية» والتي تنقسم بدورها إلى قسمين هما: >الآليات< و>الموانع< حيث يلعبان دوراً إيجابياً أو سلبياً في عملية تکوين المعرفة. لذا، فإنّ تكوّن المعرفة تحصل في خضم عملية التأثير ـ التعاطي بين الأضلاع الثلاثة ـ بوصفها عوامل وعناصر مؤثّرة في هذه التكوّن .
5. في ضوء الافتراضات المتعدّدة التي تظهر کنتيجة للترکيبات المحتملة والقابلة للتحقيق بين مقومات وعناصر کل من الأضلاع الثلاثة للوحدة فيما بينها، فإنّ حصيلة عملية تكوّن المعرفة يمکن أن تنتهي إلى واحدة من الأوضاع الأربعة التالية:
أ. الابتعاد عن الواقع: ويتمثّل ذلک في الوقوع في ورطة الانحراف، والابتعاد عن الوضع الابتدائي الأول (الجهل البسيط) الذي کان يعيشه العارف. ذلک أنّه عندما تتحقّق حالة اللاواقع (أي الواقع الکاذب) بدلاً من الواقع، فإنّ الإنسان ينأى عن الجهل البسيط ويصبح أکثر ابتعاداً عن الواقع ليسقط في الجهل المرکّب.
ب. الاحتجاب عن الواقع: البقاء في حالة الجهل البسيط الأوّل.
ج. الاقتراب من الواقع: ونعني به الحصول على المعلومات المشوّهة والناقصة عن الواقع (العلم المجمل)، وإن کان الواقع، کما هو على حقيقته، بعيد المنال.
د. التعرّف على الواقع: حصول المعرفة بالواقع کما هو (العلم المفصّل).
بالإمکان رسم الأضلاع والعناصر المؤثّرة والمطروحة في نظرية «الترکيبة الثلاثية في بناء المعرفة» کما في المخطّط البياني أدناه:
لا شکّ في أنّ نظرية «الترکيبة الثلاثية» بحاجة لمزيد من الشرح والتفصيل وعلى النحو التالي:
1. التعريف بالکلمات المفتاحية للنظرية؛
2. تقديم شرح تفصيلي لعناصر کل ضلع من أضلاعها الثلاثة؛
3. توصيف کل عنصر من العناصر المرتبطة بکل ضلع؛
4. تفسير التطبيقات السلبية والإيجابية لکل ضلع من الأضلاع الثلاثة والعناصر الداخلة في عملية تكوّن المعرفة؛
5. تحديد العلاقة بين الأضلاع وأحياناً بين عناصر کلّ ضلع (لا سيّما المعارف التکميلية) مع بعضها البعض؛
6. تفسير أنواع التراکيب المحتملة التي تنتهي إلى الأوضاع المعرفية الأربعة. (الابتعاد، الاحتجاب، الاقتراب، التعرّف)؛
7. شرح تباين نظرية «الترکيبة الثلاثية» مع النظريات المعرفية التقليدية والمعاصرة، ودفع شبهة النسبيّة عنها؛
8. شرح مکاسب نظرية الترکيبة الثلاثية في حل المعضلات والأسئلة المعرفية.
والآن، نعود ثانية إلى شرح الأساس الأول لنظرية الابتناء.
کانت المعرفة الدينية متاحة لمسلمي صدر الإسلام عبر عملية بسيطة وعلى النحو التالي:
أ. إحراز فهم عام بشأن الأساس والمعاد وبصورة فطرية ـ عقلية (أو بتأثير تراکمات تعاليم الأنبياء السابقين)؛
ب. فهم ضرورة الدعوة (بمقتضى وجود تلقٍّ واضح عن خصائص الأساس الواجب) والشعور بالحاجة إلى الطريق والمرشد (بمقتضى معرفة الذات/العارفة ومعرفة الإنسان على نحو إجمالي)؛
ج. معايشة دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والعلم بحصول الإعجاز والتقييم العقلي ـ الفطري للمدّعى ودعوة النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم؛
د. تلقّي التعاليم والمفاهيم الإسلامية في إطار الآيات النازلة والسنّة الصادرة؛
ه. تبلور المعرفة الدينية عند المسلمين (المنظومة المعرفية الدينية الإسلامية الأولى).
وکما نلاحظ فإنّ تبلور المعرفة الدينية الإجمالية والبسيطة عند المسلمين في عصر صدر الإسلام (وبشهادة النقاط آنفة الذکر)، کان في إطار تأثير ـ تعاطي مبادئ «معرفة المصدر» (النقطة أ) و«معرفة الدين» (النقطة أ) و«علم المعرفة» (البنود أ، ج، د) و«معرفة المخاطَب» (النقطة ب). ولا شکّ أنّ أساس «معرفة البيئة» أيضاً له تأثير في بلورة المعرفة الدينية بما يتناسب مع ميزان وطبيعة الحالات المتلقاة من الحقول المعرفية في الخريطة الهندسية للإسلام.
بعد تبلور المعرفة الدينية البسيطة والمجملة المشار إليها، وتأسيساً عليها وکذلک في إطار التأثير ـ التعاطي المتناوب- المستمر للعوامل الدخيلة، والإحالة إلى عملية متواصلة نابضة ومنتجة، ظلّت المعرفة الدينية الإسلامية عرضة للتكوّن والتکامل والنمو وأحياناً للتصحيح والترصين، وکذلک، بفعل الدور المفرط للمتغيّرات غير الصائبة الدخيلة أو عدم القدرة على الإدارة الصحيحة لأدوار العوامل الصائبة الدخيلة (واختلال توازنها وتناسب تدخّلها وتأثيراتها)، شهدت المعرفة الدينية أحياناً (وفي بعض الأمم) انحداراً وتحريفاً وإسفافاً وإعوجاجاً، فظهرت، على هذا النحو، المنظومات المعرفية والمذاهب المختلفة.
إنّنا، ومن خلال تشخيص وسبر سابقة المنظومات المعرفية الدينية (المتمثّلة في المذاهب والفرق الإسلامية) يمکننا أن نکتشف سعة وعمق المعرفة الدينية أو انحدارها وانحرافها عند کلّ منها، وإبراز دور کل عامل من العوامل في تبلور هذه المنظومات بشکل متزامن «مقارن» وبصورة «متعاقبة» (مرحلية وعبر تتالي تاريخي للمعرفة الدينية).
الأساس الثاني للنظرية
إن العوامل والعناصر الدخيلة في عملية تكوّن المعرفة الدينية كثيرة ومتنوّعة، ويمكن تقسيمها من زوايا عديدة وتصنيفها من جهات مختلفة، منها:
1- وفقاً لنمط «التركيبة الثلاثية» (كما أشير إلى ذلك في المخطط رقم 1). فتنضوي تحت هذين الركنين جميع العناصر الذاتية وشبه الذاتية المتّصلة بالقائم بعملية المعرفة (العارف) من جهة والمعلومة أو ما تمّ استكشافه ومعرفته من جهة ثانية، وأما العناصر العرضية المستندة إلى أحدهما أو أنّها ماوراء الطرفين المذكورين (التي لا يمكن إسنادها إلى الركنين الآنفين)، فتندرج في إطار «المعارف التكميلية»، على الرغم من إمکان تصنيف المعارف التكميلية إلى فئتين منفصلتين ومستقلّتين عن بعضهما البعض تحت عنوانيْ «المعدّات» و«المعوّقات»، وذلك بحسب الدور الإيجابي والسلبي الذي تضطلع به. وعلى هذا الأساس، يمكن تقسيم العوامل إلى أربعة طوائف؛ باعتبار أنّ بعضها ذات وجهين، بمعنى أنّها تعتبر «معدّة» بوجه من الوجوه وفي إحدى الحالات، وتُحسب «معوّقاً» من وجه آخر وفي حالة أخرى؛ إلا أنّنا ندرجها جميعاً في خانة «المعارف التكميلية» من حيث إنّ كلا الطائفتين تقومان بدور هامشي وجانبي.
2- التقسيم طبقاً للأصول الخمسة يمكن أن يعدّ نطاقاً لتصنيف العوامل الدخيلة، وإن كانت آليات تحصيل المعرفة الدينية تنطبق على تقسيم التركيبة الثلاثية بلحاظ مفاد الأساس الثالث للنظرية (رسالية الدين وشموله للأصول الخمسة المؤثّرة في فهم الرسالة الإلهية)؛ وبهذا اللحاظ تقسَّم العوامل الدخيلة في تكوّن المعرفة إلى خمسة طوائف.
3- العوامل الركنية أو الأصلية وغير الركنية أو الفرعية: إنّنا نطلق اسم العامل الركني أو الأصلي على المتغيّرات التي تؤدّي دوراً إيجابياً ومصيرياً في تكوّن المعرفة وتبلورها، نحو الدوالّ الداخلية المحسوبة من السمات الذاتية للعارف أو القائم بعملية المعرفة، وكذلك الوحي والسنّة اللذان يلعبان دوراً معرفياً واسعاً لا يمكن استبداله والاستعاضة عنه. ونطلق اسم العامل غير الركني أو الفرعي على المتغيّرات ذات الدور الجانبي في عملية المعرفة، من قبيل أنواع «البيئات والظروف».
4- العوامل المعرفية وغير المعرفية: نحن نطلق على المتغيّرات الإدراكية والعلمية والمنهجية عوامل معرفية، بينما نسمي المتغيرات الأخلاقية والفطرية والبيئية عوامل غير معرفية.
5- العوامل الأنفسية والآفاقية: هذا التقسيم أيضاً- كالقسم الرابع- يدور مدار العارف والمحيط بالمعرفة (يرتبط بالإنسان بوصفه الذات/الفاعل). فإنّنا سنسمّي جميع أنواع المتغيّرات الداخلية بالعوامل الأنفسية، وجميع أشكال المتغيّرات الخارجية بالعوامل الآفاقية.
6- العوامل الخفيّة اللاإرادية، والبيّنة الإرادية (وهذا التقسيم ليس بحاجة إلى مزيد إيضاح).
7- العوامل الصائبة أو الحقّة وغير الصائبة أو الباطلة: والأولى تعني الدخيلة حقّاً والمناسبة فعلاً، بينما الثانية تعني غير الدخيلة وغير المناسبة.
سنطلق على العوامل الدخيلة بحقّ في عملية المعرفة (بحسب الحالة أو بصورة مطلقة) العوامل الصائبة أو الحقّة، ونسمّي المتغيّرات الدخيلة بغير حقّ العوامل الباطلة أو غير الصائبة.
ولا ريب في أنّ كلّ واحد من الأقسام وجهات التقسيم المذكورة بحاجة إلى شرح وبسط وافٍ من جوانب عدّة، نحو:
1. تفسير معيار التقسيم.
2. التعريف الدقيق لكلّ قسم.
3. استقراء الأجزاء واستقصاء الجزئيات لكلّ قسم من الأقسام.
4. تبويب عناصر كلّ قسم على أساس النوع وحدود الوظيفة والأداء.
5. بيان النسبة والعلاقة بين الأقسام المختلفة.
6. سرد الشواهد الكافية لكفاءة وفاعلية كلّ واحد منها ومدى أدائه.
7. تبيين معيار الصواب والبطلان.
8. تفسير سرّ الصواب والبطلان في كلّ قسم من الأقسام.
9. بيان حدود دور كلّ فريق وطائفة في تبلور المنظومة المعرفية المتعارفة وتطوّرها وتكاملها أو تدنّي مستواها وهبوطها.
10. ذكر سبل تعزيز الأقسام المختلفة وتعديلها وترصينها وتصحيحها وصيانتها.
11. صياغة المعيار المناسب لكلّ واحد من الأقسام الآنفة، وتعيين المعايير اللازمة لها.
بيد أنّه لا يتاح لنا شرح جميع الأقسام وجهات التقسيم المتنوّعة في هذا المقال؛ وعلى هذا الأساس، سنكتفي هنا بما تمليه علينا الضرورة من شرح إجمالي للتقسيم السابع:
من جهة، إنّ معيار تدخل العنصر الحقّ رهن بحجّية العامل الدخيل، ومن جهة ثانية مقيّد بمدى تناسب الدليل مع المدلول والمتعلّق، ومن جهة ثالثة مرتبط بمدى دلالة العنصر أو العامل. فنعتبر العنصر دخيلاً بحقّ حينما تكون حجّية العامل محرزة ومتناسبة مع المدّعى، وتكون حدود دلالتها على ذلك المدّعى كافية أيضاً.
ولنأخذ بنظر الاعتبار الحجّية «بالمعنى الأعمّ» التي تشتمل على «الحجّية المعرفية» و «الحجّية الشرعية (الأصولية)» معاً. فعلى سبيل المثال الحجّية المعرفية صالحة للكشف عن الواقع التكويني، كما أنّها مناسبة وكافية لإثبات القضايا العقدية والعلمية الحاكية عن الواقع الخارجي (نفس الأمر التكويني). بالإضافة إلى أنّ القضايا القطعية المتأتّية من المصادر غير العقلية بل المعصومة شرعاً، نحو نصّ الكتاب والسنّة القطعية، أيضاً يمكن أن تقع كمقدّمة للقياس المعرفي، وأن تصبح قضايا حقيقية من خلال استخدام اكتشاف نفس الأمر التكويني والتقرير القطعي من الخارج. والحجّية الشرعية أيضاً لها القابلية والأهليّة اللازمة لكشف الواقع التشريعي (الأحكام الواقعية الفقهية والأخلاقية بحسب تعبير الفاضل التوني) ، أو «الواقع التقريري» كالأصول العملية، وهي كافية لإحرازها وتحقّقها. وبعبارة أخرى: يتسنّى الاكتفاء بحجّة «تامّ الكاشفية» فقط لغرض كشف ما يحتاجه الدليل القطعي؛ بينما لو كان مصبّ المسألة اعتبارياً وجعلياً لا تكوينياً يمكن حينئذ الاكتفاء بحجّة «غير تامّ الكاشفية» أيضاً، وعندما يكون مصبّ المسألة الخروج عن الشكّ، ولا حاجة معه إلى كشف «الواقع التكويني» أو «الواقع التشريعي»، يعتبر أصل «عدم الكاشفية» كافياً وناجعاً.
ومن هنا، فخبر الواحد لا يفي بإبراز القضية الحكمية التكوينية، ويكون كافياً لإحراز القضية الحكمية التشريعية (التكليفية والتهذيبية). وهذا من قبيل أنّ العقل مؤهّل وقادر على اکتشاف العقائد، لکنّه غير مؤهّل ولا جدير باستنباط القضايا التعبّدية، كما أنّ الأدوات الحسيّة ليست حريّة بكشف الأمور الميتافيزيقية، والعقل (لوحده) غير جدير بفهم الأمور الفيزياوية.
الأساس الثالث للنظرية
تشكّل رسالية الدين وشموله للأصول الخمسة الدخيلة في فهم الرسالة الإلهية الأساس الثالث من أسس هذه النظرية. ويترتّب على هذا الأساس ما يلي:
1- الدين رسالة هداية من مصدر الكون والحياة موجّهة إلى الإنسان، والدين رسالة مشتملة على منظومة من القضايا والتعاليم، ومبعوثة من مرسِل قدسي بطرق خاصّة إلى الإنسان من حيث كونه مخاطباً بهذه الرسالة.
2- إنّ عملية البعثة أو بعث الرسالة تنطوي على خمسة أضلاع هي: «المرسِل»، «الرسالة»، «الأدوات» (أي الوسائل والوسائط)، «نطاق الرسالة وموضوعها»، «المتلقّي». ويعبّر اصطلاحاً عن هذه الجهات والأضلاع بالأصول الخمسة: «معرفة المصدر»، «معرفة الدين»، «المعرفة»، «معرفة النطاق»، «معرفة المخاطب»، وسيأتي مزيد من الشرح للأصول المذكورة.
3- لكلٍّ من الأصول الخمسة الآنفة طبيعته ومميزاته ومواصفاته الخاصّة، فتكون سهيمة ومؤثّرة في فهم الرسالة (تكوّن المعرفة) شئنا أم أبينا، إرادياً أو لاإرادياً. وعليه، يتعذّر فهم الرسالة الإلهية (القضايا الدينية) من دون لحاظ حصيلة منهجية صفات تلك الأصول .
وتفصيل الكلام في الأساس الثالث يتطلّب تسليط الضوء على مباحث وجهات عديدة، نحو:
1. بيان النظرة الرسالية للدين بياناً ماهوياً استناداً إلى العقل والنقل.
2. شرح نتائج تعدّدية الرسالة الدينية.
3. تحليل ظاهرة البعثة وتبيين هندسة تشكيلها وتركيبها.
4. الاستدلال على حصر الأصول ، وإحالة جميع العناصر المرتبطة بالرسالة وعملية البعثة إلى الأصول الخمسة.
5. تعريف سبل اكتشاف عناصر كل أصل من تلك الأصول .
6. بيان الهوية الدينية وما وراء الدينية لكلّ واحد منها.
7. تهيئة لائحة مكتملة بأسماء أجزاء وأفراد كلّ واحد.
8. إعداد فهرس جامع وشامل لخصال الأصول وخصائصها.
9. شرح النتائج المعرفية والمنطقية لطبيعة وصفات كلّ واحد من الأصول .
10. الإشارة إلى التفاوت الجوهري بين الخطاب الملحوظ في هذا الأصل وبين مزاعم أصحاب النظريات الهرمنيوطيقية (لا سيما القائلين بالتزام رأي المفسّر).
11. مقارنة الأصول الخمسة وحصيلة مواصفاتها وطبيعتها بنمط «التركيبة الثلاثية في بناء المعرفة».
12. إبراز الاختلافات في فهم الأصول في الخطابات المعرفية للمذاهب والفرق الإسلامية المختلفة، ودورها في بلورة أنواع متفاوتة من المعارف.
13. استقراء واستقصاء شواهد التأثير النافع والضارّ لكلّ واحد من الأصول والعناصر في المعرفة الدينية الشيعية.
14. بحث موارد إذعان السلف حول حصّة ودور كلّ واحد من الأصول في تفهّم القضايا والتعاليم في دائرة البناء المعرفي للدين.
15. استعراض شواهد إفادة السلف من طبيعة ومواصفات الأصول في الاستنباط.
لكنّ التطرّق إلى كلّ هذه الحالات خارج عن نطاق هذه المقالة، ونسأل الباري عزّ وجلّ التوفيق للخوض في تفاصيل هذه الموضوع.
الأساس الرابع للنظرية
الأساس الرابع لهذه النظرية عبارة عن «ابتناء الكشف والتطبيق الصائب والجامع للدين على الكشف والتطبيق الصائب والجامع لطبيعة ومواصفات الأصول الخمسة». ولا ريب في أنّ هذا الأساس- شأنه شأن الأسس الثلاثة المتقدّمة- ذو منحى وصفي وتحليلي، وخاضع لرؤية تنطلق من التوصية والتجويز؛ فهو بمقتضى الاتّجاه الأول وبحيثية معيّنة مرتبط بـ «فلسفة الدين»، ومن حيثية أخرى يمثّل مدّعى متّصلاً بفلسفة المعرفة الدينية؛ لكنّ هذا الأساس بمقتضى الاتّجاه الثاني يعدّ من جنس بحوث «مباني منطق اكتشاف الدين». وكيف ما كان، فمضمون هذا الأساس في الصور الثلاث جميعاً ما هو إلا مدّعى داخل في مسائل الفلسفة المضافة (فلسفة العلوم) في دائرة البحوث الدينية.
بيان ذلك: حيث أنّ فلسفة الدين تحمل على عاتقها تحليل الأحكام الكلية لأمّهات مسائل الدين تحليلاً عقلانياً، وانطلاقاً من أنّ البحث القبلي (قبل مواجهة مصادر الدين) حول طبيعة وصفات الأصول الخمسة للرسالة الإلهية مستمدّ إلى حدّ بعيد من فلسفة الدين، ومبتنٍ على هذا العلم (على أنّ ارتباط وتناسب كلّ واحد من الأصول المذكورة بفلسفة الدين يختلف عمّا سواه شدّةً وضعفاً، حتّى يصل إلى أدنى مستوياته في مبدأيْ المعرفة والمخاطب)، فإنّ مضمون الأساس الرابع ومدّعاه يمتزج بفلسفة الدين ويذوب فيها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، بما أنّ فلسفة المعرفة الدينية تتكفّل بتحليل الأحكام الكلية لأمّهات مسائل المعرفة الدينية تحليلاً عقلانياً، والبحث التالي المبنيّ على أنّه لا مناص من تأثّر المعرفة الدينية برسالية الدين والعناصر المكوّنة لأصول الرسالة والبعثة يعدّ حديثاً عن النظام وكيفية تكوّن المعرفة الدينية ومن باب تشخيص الأصيل عن غير الأصيل، فإنّ ذلك يكون نوعاً من أنواع الحكم بشأن عدد من أمّهات مسائل المعرفة الدينية ، ويصنَّف بهذا اللحاظ ضمن خانة مباحث فلسفة المعرفة الدينية.
ومن جهة ثالثة، لما كانت أسس منطق اكتشاف الدين تبحث فيما ينبغي وما لا ينبغي في منهجية فهم الدين (في مقام التوصية ومن خلال رؤية قبلية)، وتتحدّث عن تصوّرات صياغة منطق فهم الدين، وتتناول بحث الواجبات والمتطلّبات والضرورات المنبعثة من أصول الرسالة الإلهية الخمسة؛ فإنّ هذه المباحث تندرج في زمرة مسائل الأسس المنطقية.
وأخيراً ومن جهة رابعة أيضاً، بما أنّ فلسفة منطق فهم الدين (في مقام التوصيف وضمن إطار الرؤية البعدية) بصدد كشف الظنون والتصوّرات المؤثّرة على منطق فهم الدين الموجود، فإنّه يمكن اعتبار هذا البحث من جملة مباحث فلسفة منطق فهم الدين.
وعلى هذا الأساس، يمكن تقرير هذا الأساس بثلاثة أو أربعة وجوه مختلفة، فينتظم بحسب كلّ تقرير في سلك أحد العلوم الثلاثة أو الأربعة، ويدخل في جملة مسائلها. وحيث أنّه لا ضرورة هنا لطرح جميع التقريرات المختلفة بما لا يسعه المقال، فلا مناص لنا من الاكتفاء هنا بعرض تقرير مجمل ومتسامح لهذا الأساس، ونحن نصبو نوعاً ما إلى تقديم تقرير يكون أساساً لصياغة وتصميم منطق الاكتشاف المنشود.
طبقاً للأساس الرابع للنظرية، يمكن التوصّل إلى كشف صائب وجامع للقضايا والتعاليم الدينية واستكشاف السبيل الفاعل والمعاصر لتطبيق الدين في حالة تحصيل التلقّي الصائب والجامع عن ماهية الأصول ومختصّاتها، واستقراء عناصرها واستقصائها ومعرفة مكوّناتها، وإجراء تحليل وتنسيق وتبويب وتقعيد لمدى تأثير خصال الأصول وخصائص المكوّنات في عملية الفهم والفعل الديني (تحقيق الدين وتحقّقه)، ومن خلال الحيلولة دون تأثير المتغيّرات الدخيلة بغير حقّ.
وبناءً على التقرير الأخير الناظر إلى نظام تكوّن المعرفة الدينية وطريقة هذا التكوّن، وكذلك من زاوية دراسة أسس علم منطق فهم الدين، يمكن القول: لا شكّ في أنّ المعرفة الدينية بالمعنى الأعمّ تتبلور تحت تأثير طبيعة وصفات الأصول الخمسة والعلاقة في ما بينها، أكثر من تأثير أيّ عامل آخر، كما أنّ جلّ ألوان المنهجية الشائعة لفهم الدين تتأثّر بشدّة- بشكل أو بآخر- بهذه الخصال والخصائص.
إنّ تأثير الأصول وعناصرها ومكوّناتها في عملية تكوّن المعرفة الدينية وتطوّرها يتمّ بالطريقتين: الأفقية والعمودية (الشبكية والهرمية)، وعلى ثلاثة مستويات: داخل العنصر الواحد، وبين العناصر المختلفة، وخارج نطاق العناصر. وفي ما يلي نحاول بسط الكلام وتوسيع إطار البحث في الأمور المذكورة آنفاً:
معنى كون الأصول وعناصرها أفقية هو أنّها في عرض بعضها البعض وفي مستوى واحد من التأثير ولعب دور في إنتاج المعرفة الدينية. فعلى سبيل المثال، العقل يتدارك حجّية الكتاب في إطار أساس المعرفة، كما أنّ الكتاب يثبت حجّية السنّة؛ فكلّ واحدة من هاتين الحجّتين عبارة عن أمر معرفيّ يعمل على إنتاج المعرفة بموازاة الأمر الآخر وبصورة مستقلّة. فالعقل يوجب إبراز المعنى المنطوي في صلب النصّ عن طريق إقرائه واستنطاقه، وفي المقابل تسهم الإفادة من المعنى المستخلص من النصّ في إثراء العقل ورفع مستوى الإدراك لديه، فيقوم باستكشاف الطبقات السفلى من المعرفة الدينية. ومن هنا، يحصل تبادل بين الكتاب والسنّة نظير التبادل العمودي والعمقي الموجود بين العقل والنقل، وتتواصل هذه المسيرة الحلقية- الحلزونية دون انقطاع وبشكل «شبه غير متناهٍ».
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ الأصول والعناصر المكوّنة لها توجب ترسيخ وتمتين المعرفة الدينية وتوسيعها أفقياً «بصورة شبكية» وعمودياً «بصورة هرمية» في سياق تكاملي منبسط ومستمر. وهكذا يتّضح أنّ المعرفة الدينية أساساً قابلة للتطوّر والتوسّع وقطع مدارج الكمال، بل و- أحياناً- الترصين والتصحيح كذلك؛ ولا ريب في أنّ سلامة النتائج المترتّبة على هذه المرحلة والثمار المستخلصة من هذه المسيرة رهن بالحفاظ على الضوابط وتوفّر الشروط المذكورة في البيان الإجمالي للأساس الرابع.
وفي ضوء هذه الإيضاحات، يتجلّى أنّ النتائج والاستنتاجات المستقاة من الأصول ومكوّناتها كثيرة ومتنوّعة للغاية، بحيث يشقّ إحصاؤها وجردها جميعاً؛ ذلك أنّ كلّ واحد من الأصول بمقدوره توليد قائمة طويلة من المعارف، ثمّ ما إن تشرع بالتعاطي مع بعضها البعض إقراءً واستنطاقاً حتّى تفرز كمّاً هائلاً من المعارف الأخرى ضمن وتيرة تصاعدية. وبهذا تتطوّر المعرفة الدينية ويتّسع نطاقها وتزداد تنوّعاً وتأصيلاً في ظلّ التنمية والتسلسل في استيلاد المعنى والمعرفة الحاصلة في سياق التأثير والتعامل المتبادل والمستمرّ للأصول والعناصر المكوّنة لها.
إنّ كلّ أساس مكوّن من عناصر متعدّدة، وكلّ عنصر مؤلّف من مجموعة أجزاء ونوى متنوّعة؛ فمن باب المثال أن أساس المعرفة مكوّن من عناصر ومكوّنات عديدة (الفطرة، والعقل، والوحي، و…)، وكلّ واحد من عناصر هذا الأساس أيضاً (كعنصر العقل مثلاً) مؤلّف من مجموعة من الأجزاء الصغيرة (نحو القواعد والأدلة العقلية). وعلى هذا، فإنّه يمكن تقسيم تأثير الأصول المختلفة والتعاطي بين مستوياتها الثلاثة بالشكل التالي:
أ- التأثير والتعاطي «داخل العنصر الواحد» (بين الأجزاء): لكلّ جزء من العنصر الواحد صلة إنتاجية مع الجزء الآخر منه، بمعنى أنّ الجزئين يوجبان إنتاج المعرفة الدينية وتنميتها وتطوّرها في سياق تأثيرهما الإنتاجي والتعاطي مع بعضهما البعض. ويطلق على هذا اللون من التأثير والتعاطي اسم «التأثير والتعاطي داخل العنصر الواحد»، كما في الوظائف والنتائج المترتّبة على التعاطي بين القواعد والأدلة العقلية داخل دالّ العقل.
ب- التأثير والتعاطي «بين العناصر المختلفة»: مرادنا النتائج المنطقية- المعرفية داخل الأساس نفسه الناشئة من دور الإنتاج وإعمال النسبة بين العناصر المنتمية إلى أساس واحد ولحاظ العلاقة التي تربطها مع بعضها البعض، وذلك من قبيل التأثير والتعاطي بين العقل والنصّ في إطار أساس المعرفة.
ج- التأثير والتعاطي «خارج نطاق العناصر»: نعبّر عن التأثير والتعاطي المتبادل بين الأصول بالتأثير خارج نطاق العنصر. فمن جهة، لما اعتبرنا الشارع حكيماً في أساس «معرفة المصدر»، لا بدّ لنا من أن نسم فعله وقوله (أي التكوين والتشريع) بالحكمة أيضاً. ومن جهة ثانية، وحينما اعتبرنا الإنسان- بمقتضى الحكمة الإلهية- متنعّماً بموهبة العقل في أساس «المخاطب»، فلا غرو أنّنا سنعدّ إمكان توظيف العقل في فهم التكوين والتشريع عملاً وجيهاً في أساس «المعرفة».
ومن هذا المنطلق، ثمّة أنواع مختلفة من التأثير والتعاطي العقلاني بين الأصول ، ولنا تبويبها بصورة إجمالية إلى نحوين: إنتاج «استقلالي/ عمودي»، وإنتاج «تبادلي/ أفقي».
كما يمكن تصنيف نتائج التأثير والتعاطي لكلّ واحد من الأصول ، بالإضافة إلى عناصر كلّ واحد منها بصور مختلفة؛ فمن باب المثال يمكن تقسيم وظائف عنصر العقل إلى سبعة أو ثمانية أقسام، وبوسعنا تقسيم الوظائف الآلية- الأصالية المشتركة بين الأصول في الجملة إلى الأقسام التالية:
أولاً: الوظيفة المعرفية (استكشاف المعرفة وإنتاجها).
ثانياً: الوظيفة الحجّية (إدراك وإثبات الحجّية لباقي الأصول والعناصر من قبل أحد الأصول والعناصر).
ثالثاً: الوظيفة المعنائية (استنطاق باقي العناصر والأصول ).
رابعاً: الوظيفة المنهجية (بلورة مسارات المنهجية وتقعيدها).
خامساً: الوظيفة التنظيمية (تشكيل التنظيمات وإدارة النظام).
سادساً: الوظيفة التقييمية (تصويب الاختبارات وتشخيص الأصالة).
خلاصة البحث:
انطلاقاً مما تقدّم، نقول: إنّ نظرية الابتناء بوسعها أن تمثّل إطاراً نظرياً مناسباً لصياغة منظومة منهجية لفهم الدين، اعتماداً على الخصوصيات أدناه:
1- الشمولية والجامعية (فهي ذات استخدام واسع لاكتشاف وتنسيق جميع الأطر المعرفية الخمسة للدين، و- أيضاً- ناظرة إلى مقاميْ التفهّم والتحقّق).
2- الكمال (فهي مشتملة على جميع الدوالّ ودلائل الحجّية، بالإضافة إلى مسائل منهجية اكتشاف الدين ومباحثها كافة).
3- الواقعية (فهي مستقبلة للدور الواقعي للأصول الدخيلة حقاً في تكوّن المعرفة وتطوّرها).
4- النقدية (فهي ذات صبغة تقويمية وقابلية الفرز بين العوامل الحقّة والباطلة).
5- الصيانة (فهي رادعة عن التأثير الفاحش للعوامل الباطلة الدخيلة في ترصين المعرفة الدينية وذات الآلية الخاصة في تصحيحها).
6- الأصالة (فهي تستقي من منهل التراث المعرفي الموروث من السلف في مجال منهجية فهم الدين).
7- الحداثة (فهي منسجمة مع الأدبيات العلمية للمنهجية المعاصرة القيّمة من المكتسبات المقبولة للنظريات المعرفية الجديدة).
8- الفاعلية (فهي ذات قابلية استيعابية جيّدة لإبداء الرأي واستحداث النظام الديني/ ومتوفّرة على القابلية الكافية للتنظير وتصميم النظُم في الحكمة النظرية والعملية للدين).
9- التكامل والتطوّر الدائم (فهي ذات قدرة عالية على تكامل المعرفة الدينية وتطوّرها دون انقطاع، وبالتالي فهي تمهّد للنشاط والتجديد الديني).
10- الاتّساع والتجدّد المتواصل (فهي ذات قابلية على التكامل والتطورّ الدائم).
المصادر والمراجع
1- الاصفهاني، محمد حسين، [دون تاريخ]، نهاية الدراية، ج 2، قم: مؤسسة آل البيت.
2- بالمر، ريتشارد، 1377ش/ 1998م، علم هرمنوتيك (الهرمنيوطيقا)، ترجمة: محمد سعيد صنائي كاشاني، طهران: دار نشر هرمس.
3- سروش، عبد الكريم، 1377ش/ 1998م، قبض وبسط تئوريك شريعت (القبض والبسط النظري في الشريعة)، طهران: مؤسسة صراط الثقافية.
4- المظفر، محمد رضا، 1370ش/ 1991م، أصول الفقه، ج 2، قم: مركز النشر في مكتب الإعلام الإسلامي التابع لحوزة قم العلمية، ط 4.
5- ملا صدرا (صدر الدين الشيرازي)، محمد، 1380ش/ 2001م، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، طهران: مؤسسة حكمة الصدر الإسلامية.
6- النائيني الغروي، محمد حسين، 1424ﻫ، فوائد الأصول، ج 3، قم: مؤسسة النشر الإسلامي.
7- هارتناك، بوسطس، 1376ش/ 1997م، نظريه شناخت كانت (نظرية معرفة كانت)، ترجمة: علي حقّي، طهران: المنشورات العلمية والثقافية.